الخميس، 24 يناير 2019

رواية طويلة ،،،،،،، للشاعر ///// فتحي عبد العزيز محمد

رواية طويلة :

رواية طويلة من أربعة فصول (1)

ســنار المحروســــــــة ..

" سلطنة ود العزتين السنارين والمغاربة الاندلسيين "

" شاق هو الفراق الأبدي ومع ذلك علينا أن نتدرب على النسيان لنستطيع العيش " وأسيني الاعرج

تنوية : هذة رواية وليست تاريخ فالشخوص الذين يظهرون ويختفون وفى سلطنة حامد " سيد العويضة " , أنما هم محض خيال لواقع مفترض لبنات أفكار جدتي المغربية ستيتة الاولي , وهو على ما يبدوا كان منافس ووريث كبير محتمل وغامض لعرش سنار المحروسة , وكهاجس تعويضي لفقد دولة المسلمين بالاندلس فى ذاك الزمان المتاخر , وقبيل حتى سقوط وخراب سوبا وقيام التحالف السنارى بين العرب والفونج , والذى ختمة الوزير ود عدلان وبعد ثلاثة عقود واكثر وبكلماتة النارية وفى وجة جيش الفاتح الجديد أسماعيل أبن الباشا قائلا بكبير صلف وأدعاء وخيلاء بأن سنار محروسة محمية بسيوف قواطع هندية وجياد أدهمية ورجال صابرين على القتال بكرة وعشية , ولعداوة ومؤامرات عديدة محتمة ولوزاء أو زرية ابولكيلك الوزير الهمجي القوي , فى زمن تقريبي يجمع بين علاقات الاضداد المتجاورون السلطان محمد الفضل ود المعقور واعتراضات جنقل ملك فور , وفى تزامن غريب مع مقتل بادى أبوشلوخ علي يد المكادية تلك الايام المتاخرة فى تاريخ مملكة سنار .., والشيخ حمد الكارب القادم من سواكن وهو يقول بملئ فية ذاك الزمان " هذا ثارك يا ولدي .. ياميرفي ؟اا " .

الفصل الاول
--
قبل ما يزيد عن الستة قرون تقريبا وأكثر خرج جدى الاكبر الشيخ " سماحة " , كما يقول جدنا الاقرب بعد ذلك " سنوسي التأزي " من بوابة حصن منزل العائلة الكبير بالجزيرة الخضراء بالاندلس البعيد , ولم يعد بعدها هو الآخر على ألاطلاق , وفى تلك الظهيرة الغائمة الدافئية العليلة النسمات وفى ذاك الزمان الاول البعيد والغير منظور , ومودعا بجموع غفيرة من الاهل والاقارب والاحباب لسفرا بعيدا وطويلا للحج لبيت الله الحرام , ولربما يطول بة لعشرات الاشهر أو السنوات ومن ذاك الزمان الاول المتأخر , خصوصا ومع بدايات الارهاصات الاولي بقرب أضطراب الحال الاحوال بالاندلس الكبير نفسة , تلك الايام والسنوات ومن حكم المسلمين لها , وكأنة بالضبط يغتفي أثر أسلافة الاقدميين من الرحالة والسائحون وفى أرض الله الفسيحة , وعلى وجه الاخص أبن زمانة ومواطنة الطنجي أوالفاسي الرحالة الشهير بـ " أبن بطوطة " , كما وأن الاسفار نفسها كانت وفى ذلك الزمان بالذات أسفارا للمجهول وكقفزه فى الظلام تماما , و محفوفة بسيل أو كم مهول ومرعب من عشرات المخاطر الشاقة المحدقة والمهلكة والمنظورة والغير منظورة , والمجازفات والمغامرات الصحراوية المخيفة والشاقة من قبيل ركوب صهوة جمال القوافل الامازيقية الطنجية الخطرة , والمجهولة العواقب والنوازل تماما الا لزؤي الدربة والقوة والبأس الشديد , ويدعى بعدها جازما فى مذكراتة الشخصية القديمة المهترية , والتى أخطتها بوضوح بيدة وبخط أندلسى بديع غاية فى السلاسة والجمال , بأنهم جميعا وعندما أرتشفوا فى تلك الظهيرة القائظة جرعات من مياة النيل الصافية العذبة , كان لهم على الصحيح والارجح ثلاثة وسبعون يوما , ومنذ أن غادروا بلادهم المغرب الكبير متجشمين وعثاء كل هذا السفر الطويل والعبور المرهق الخطير ومع كل هذا الزحف الصحراوى القاسي والذى لايرحم , والذى كادت كثبانة الرملية المتلاحقة والمتحركة بقسوة هنا وهناك أن تبتلعهم تماما والى الابد , لولا لطف الله الكريم بهم وبجمالهم البربرية الامازيقية الاصيلة الصابرة القوية والشديدة التحمل لاهول ذاك السفر الطويل القاسي والمرهق , والتى استطاعت وبمعجزة ربانية الافلات الحقيقي من لسعات البرد القارص والقاسى ليلا , وحر وسموم ولهيب الشمس الحارقة نهارا , أما هو فقد أوضح شخصيا وخطيا وبجلاء بأن سفرة كان بنية الذهاب أولا للبلاد السنارية للبحث عن عمة " ودالسائح " , وزريتة التى تجزرت هناك كلها بالكامل , والبحث الجاد أيضا لفرصة عمل سانحة بالبلاط السلطاني السنارى المرموق العالي القدر والمكانة , والمشهور بتكريم وأجلال لرجال الدين والعلم والعلماء والذى سارة بكرمة الحاتمي الركبان , وفى جميع مشارق الارض ومغاربها ذاك الزمان الاول البعيد , ثم من بعد السفر من هناك للحج لاداء الفريضة والعودة لبلادة بالمغرب الكبير مرة أخري , أما رفيق دربة " شكري الفاسى " فهو بنية الحج أولا ثم المجاورة هناك بأرض الحرمين الشريفين , بل وبهذة الليلة الاخيرة والحالكة الظلمة وفى هذا الليل البهيم , يكون لهم أيضا بالتمام والكمال ثلاثة وثلاثون يوما أخرى مما تعدون , ومنذ أن تكحلت عيناهم على أخر حاضرة فى بلاد السودان الكبير , وهى مدينة " تمبكتو " الشهيرة القديمة والعالية البنيان , وفراقهم غير أسفين لانشوطة نهر النيجر الكبرى والممتدة جنوبا ,وهم متجشمين ركوب الصعاب والاهوال وفى هذة القافلة الطويلة الممتدة , والتى تتضخم وتكبر وتضمحل وفى كل مرحلة من مراحل رحلتهم الطويلة والشاقة , وقد أخذ بهم الجهد والتعب والاعياء ما أخذ , وكانها بعد كل ذلك تمضى بهم بثبات نحو العدم أو الى مالا نهاية , وهى تمر قاطعة العشرات من الواحات والوديان والفيافئ الرملية , وهضاب ووهاد صحاري النيجر وهضبة التبيستى العميقة والواسعة والخطرة , فى طريقهم الاخير صوب تلك الابار الوحيدة الان بوأدى أزوم أو وأدى هور , ومنها مباشرة ينحدرون لدار الريح ولبئر أخرى أكثر أهمية وشهرة , وهم فى مشوارهم الاخير لبلوغ نهر النيل العظيم , وهى بئر " سرار " الشهيرة والزائعة الصيت حينذاك , للنزول بالطبع فى ضيافة شيخنا الجليل الكريم " أبن مقبل " بكردفان الغرة أم خيرا برا , ولكنهم ما لبثوا أن تشاورا فى ذاك العصير , فى ما بينهم وبقية القوم وفى منتصف المسافة ومفترق الطرق الرهيب , الى أين نحن ذاهبون أيتها العير ؟ , أو الى أى الطرق سيتحول المسارفى هذة الدروب الصحراوية المهلكة ؟ , خصوصا وبعد أن تنأهى الان لمسامعهم ومن الكثيرين الذين التقوا بهم فى الطريق , والقادمين للتوة من جهات دار صباح بأن بئر " سرار" مقصدهم , قد نضب معين ماؤها الان تماما وهجرتها بالتالى كافة القبائل والعشائر وبكامل أبلها ومواشيها , الى النيل ومنذ زمن ليس بالقريب , ونزلوا متفرقين عند جرف " جموع بن غانم " , بعد ترادف أعوام من الجدب والقحط وشح وأنعدام الامطار , فكان عليهم أن يختاروا مواصلة السير شمالا ليستجيروا بشيخ الشيوخ ٍ" سوار الذهب " تلميذ " التلمسانى " بدنقلا أو الاتجاة للشيخ القطب الصمدانى " أدريس الارباب " تلميذ " عبدالكافى " فى جزيرة " توتى " أوجزيرة الجندى .
بل ليلا أستقر رأى القوم , على عقد العزم للنزول صباح اليوم الثالث مباشرة , وكما هو مخطط لة الان بالبرالغربي للنيل عند قرية أمدرمان الصغيرة والمقابلة مباشرة للجزيرة " توتى " , وفى حلة شيخنا " ودأم مريوم " الشهيرة وبالقرب من مشرع " الموردة " المعروف يومذاك لاهل السودان الغربى الكبير , أما ما كان ملاجظ وفى ذاك الصباح الباكر المشهود بأن السواد الاعظم من أهل " توتى " و" الحليلة شوحطت " أى " شمبات البلد " وحتى , العيلفون نفسها ماجاورها من حلال يمؤرون فى جموع غفيرة كخلية نحل عند المقرن وملتقى النيلين , منشغلين عن أخرهم بالاستعدادت الكبري والتى تجرى على قدم وساق لاحتفال دينى على ما يبدوا وشيك ومهيب وعظيم يندرج تحت مسمي أستقبال شهير وكبير لجلابة الشيخ الجليل " عبد الله الحلنقى " الضخمة , والقادمة للتوه من ربوع التاكا والشرق الفسيح والتى سدت وملاءة كل الافاق والنواحى وقرية " كرش الفيل " المجاورة كلها , وذلك عند قدومة فى المواجبة السنوية المعروفة ولزيارة شيخة فى العلم " أدريس ود الارباب بن محمد علي " , وجريا للعادة وتؤكيدا للتواصل والمحبة والاتحاد فيما بينهم سواء فى حياتة أو بعد وفاتة , وبالطبع كانت تدفر معة فى تلك الاثناء الكثير من قبائل التاكا , وقبائل الشرق وعرب الحلنقة فكانت أيام مشهودة بالذكر والعلوم , كما أن أنباء أخرى فى تلك الايام موازية ومفرحة من قبيل وصول قافلة أخرى محملة بالحجيج والتجار , الشناقيط والفولانين وأهل الدين والفقة والعلوم التنويرية الحديثة , من الاندلسين والمغاربة قد طار وملئ الافاق كلها البعيدة والقريبة , وكحدث عظيم وفريد يحدث فى بعض الاعوام بجهات جزيرة الفونج وسنارعند عبورهم الامن للنيل فى طريقهم للحج , بل ويعتبر فى حينها فال خير عميم للدانى والقاصى فى تلك الفجاج العميقة المنسية من الدنيا , حيث كانت الاستعدادت تجري بقدم وساق بالضفة الغربية للنيل , لخدمة ضيوف الرحمن ولاستقبال الركائب والاحمال ويقف على كل ترتيبات نزولهم المامون نجل الشيخ الاصغر المعروف بـ " عركى " , والذى قال لحيرانة والدة كلمتة الفصل " أوصيكم لله والرسول .. الفقراء والحجيج لا تجيهم عوجة أبدا .. " فاكثروا لنا كما يقول تلك الايام من الزبائح والولائم والكرم والاعطايات ما يعجز عنة حتى الوصف , وكان الشيخ نفسة قد جاء منذ أيام من الضهرة , قاصدا النزول بجلابتة والمبيت فى حلة العيلفون , ثم السفر صباحا بصحبة الشيخ " الحلنقى " قاصدين , الدخول مع المراقيب وبعض الحجيج المغاربة من رجالات العلم والدين للحاضرة " سنار " , بدعوة كريمة من السلطان السنارى المعظم صاحب الرواق السنارية بالازهر والبلاد الحجازية , لاثراء مجالس الذكر والعلم والفقة , وللاستزادة من فيوض علومهم اللدنية واراءهم وأجتهاداتهم وفتأويهم الثاقبة , عن العالم الاندلسى التنويرى الواسع الصيت , والمجهول تماما للخاصة والعامة , وكان هذا على الارجح واللة أعلم الدخول الاخيرللشيخ لسنار المحروسة وقبيل أنتقالة بعدها للرفيق الاعلى .
-2-

ووجدها بالتالى الشيخ " سماحة " فرصة مواتية تماما ولا تعوض للعمل بالبلاط السنارى , بجانب البحث الدؤوب والتقصى بنفسة عن عمة الاكبر " ود السائح " وأعقابة هناك , وتقديم أجازاتة العلمية العديدة التى تثبت كلها براعتة ونبوغة الذى لايدانية فية أبن أنثى , وفى مختلف العلوم الاندلسية , كالرياضيات والطب والفلك ومختلف علوم الفقة واللغة ,والسياسة وعلوم الظاهر والباطن , ومن مختلف المدن والمدارس العريقة فى أشبيليا وطليطلة وقرطبة وغرناطة , والالتحاق بوظائف الوزراء والمستشاريين المغاربة فى بلاط السلطان السنارى , والسفر بعدها للحج والعودة لبلادة العزيزة المغرب , بل ومن حسن الصدف حئنذاك أن تزامن وترافق مع وصول الجلابة بشائر الخير العميم بوصول أخبار سارة أخرى , ومن نوع أخر مختلف وهى تبشير السلطان بقدوم ثلاث مواليد ذكور وفى وقت متقارب تقريبا , فواحدة من نسائة الحمل رزقت بطفلها بعد منتصف الليل والاخرى رزقت بمولودها بعد صلاة الفجر , أما الثالثة فقد كانت ولادتها متعثرة بعض الشيىء ولم ترزق بمولودها الا عند الظهيرة تماما , بل وما أن وصل الخبر للملك بقدم المولود الثالث وفى وضح النهار وكبشارة خير للسلطان , وملكة العضوض حتى أنشرحت نفسة وأقبل على الدنيا بكلياتة وفرح بهذا المولد أيما فرح عم ربوع السلطنة كلها , وقضى بهذة المناسبة السعيد والسارة الموافقة للناس سريعا على كل ما كان متعلق من أمورهم وشئونهم الخاصة والعامة بدواوين الدولة , وبما يخدم مصالح البلاد والعباد بل وقبل شفاعة الشافعين وأعتق للشيخ أدريس الكثيرين من المرقوبين أكراما وأجلالا لة , وأبتهاجا بمواليدة الثلاتة الذكور وقبل سفرة السريع والميمون راجعا لديارة , ولكن ما لبث أن بلغة وفى صبيحة اليوم الخامس مباشرة بأن زوجتة "ملآلآ " بنت المستشار المغربى قد توفيت بعد ولادتها المتعثرة , فحذن بالطبع عليها أشد الحزن وأمر فورا بتنكيس الاعلام وفى جميع جهات السلطنة , وأجلالا وتكريما لابيها الرجل القدير والحليم والذى كان لة فضلا كبير فى بقاء السلطان فى الحكم , وبعيدا من تسلط العثمانيون فقد لقب بل ونودى بة وريثا اصيلا ونائبا للسلطان , وطلب من وصيفتة الكبرى"صافى النية " اللينة العريكة الضخمة الكراديس , باخذة فورا والصعود بة بالطابق الثانى بالقصر السنارى ,لارضاعة وتربيتة والاهتمام بة ورعايتة كافة شئونة وكوالدتة تماما , بعيدا من أعين الفضوليين والحساد حتى يشب على الطوق , الشىء الذى أثار علية منذ ذاك الحين وهو طفل رضيع بلا شك غيرة وغضب وعقيرة وعدم رضاء أخوتة الكبارمن أبية السلطان , وهم بالعشرات من زوجاتة العديدات والمحضيات الاخرييات , والذين أعتبروا تعيينة وهو صغير وبهذة الشاكلة والسرعة ومن أرومة مغربية غريبة الجزور , مفأجاة غير سارة وهضما لحقهم الشرعى بالاحتفاظ بالحكم فى زراريهم وأعقابهم الوطنية الصرفة , الا أن أردت الله والسلطان كانت هى الغلابة فخضعوا لها كلهم صاغرئين , ولكن ظلت بالطبع قلوبهم موقورة وينتظرون الفرصة المؤاتية للانقضاض علية متى ما سنحت لهم الظروف تماما , بالطبع وأمام كل ذلك الحجم من العداء والحساسية ذلك الوقت لم يفصح المستشار المغربى الجديد " سماحة "سواء عن موهلاتة وأجازاتة العلمية فقط , ولم يظهر شهادة النسبية المغربية خاصتة والتى تبين للكافة نسبة الشريفى الصحيح والذى لا يتأتى الية الباطل من بين يدية أو خلفة , وتثبت كذلك وبالدليل القاطع عن هويتة بالكامل وقربة بالدم للمستشار السابق " ود السائح " والذى حققة بعدة قرائين دامغة , وشهادة نسبيتة المطابقة تماما للنسبية الاخرى والتى وجدها فعليا بمسكن المستشار السابق بالقصر , وصلة القرابة اللصيقة بالدم وكأبن عم أصيل لنائب السلطان الان الطفل المولود , والذى سيؤدى الافصاح عن هذة القربة رسميا وعلنا الافصلة فورا وبلا أدنى شك وطردة شر طردة من عملة ,ومن البلاط السنارى كلة وهكذا وجد نفسة وفى هذا الموقف الدقيق فدعاء ربة دعاءا صادقا لان يساعدة على كتمان كل تلك الحقائق, والى أن يحين أجل أخراجها جميعها , ثم أن يوفقة فى التعامل المحايد والنزية بين كل هذا الكم الهائل من هولاء الاخوة الاعداء اللالداء , وبين أبن عمة " حامد سيد العويضة " ومنذ اللحظة الاولى لعملة كوزير أول ببلاط الحكم السنارى العالي المقام .
-3-
بعدها مضت السنوات سراعا ,تلو السنوات لاتحمل شىء جديد ذا بال سواء أن ذلك الطفل الرضيع , أصبح الان صبيا يافعا بعض الشىء ومازال محاط بكل هذة الهالة من العناية الخاصة من أمة بالرضاعة " صافى النية " , وغيرها ممن يعملون ويسهرون على راحتة ونشأتة فى ذاك الجزء من قصر السلطانى والمعد خصيصا لة , كنائب للسلطان ووريثة الشرعى فى الحكم , بل شاءات الاقدار وفى يوم ما من أيام الصيف الحارة , وبينما كان الصبى اليافع الان ذو الثمانية أعوام يجلس كعادتة فى ذاك العصير الباكر بالحديقة الجانبية بالجناح الارضى للقصر , شاهد ولاول مرة أمراة عجوز غريبة لم يلتقى بها أبدا فى حياتة تمر من أمامة وتلقى علية , ولاول مرة بالسلام عنوة وهو بين مستغرب ومستعجب وحائر , ولكنة ظل هكذا مطبقا لا يحرك ساكنا ينظر اليها مشدوها وكانة أبكم , بل ولم يرد عليها التحية ولم ينبس لها حتى ببنت شفة , وينظر اليها ملئيا , وفى أستعجاب بليغ وأستغراق كامل , عندها فقط أدركت بفطنتها بانة بالطبع يافعا لم يشب بعد على الطوق , وانة مازال يعيش فى وحدتة وسياجة الملكى , بعيد عن أعين المتطفلين والحاسدين حيث ينعم بحياة الدعة ورغد العيش , ولم يختلط أو يحتك الا بالقليل من الناس ولم يتعلم بعد حتى النطق أو التحدث مع الغرباء بكلمات على بعضها , وبالتالى لم يستأنس بعد فى عزلتة المجيدة هذة الا بأمة بالرضاعة , ووزراء البلاط والطباخين والعاملين بالقصر والذين لايتكلمون معة الا لماما , والادهة من ذلك كلة أنة لا يعرف حتى الان كيفية القاء التحية أو ردها وهو فى الثامنة من عمرة , بل كان مستعجبا ينظر اليها وكانها تحادث شخصا آخر غيرة , عندها ولرفع الحرج عنة بالكأمل أخذت المراة العجوز على عاتقها الان فى أن تشرح لة وبطيبة خاطر, وبدون كبير عناء أو ملل أول درس له فى فن التعامل أوالاتيكيت مع الآخريين , الذين حتما قطعا ما سيلتقى بهم فى مقبل أيامة الزاهرات القادمات لتقول لة :
- يا ولدى لما تسلم عليك أمرأة عجوزة كحالاتى .. وتقول ليك .. سلام عليك .. رد عليها وقول ليها ..
- أهلا حبابك .. يا حبوبة أى يا جدة ..
- أما ولو سلمت عليك أمراة كبيرة بعض الشىء .. فقول ليها أهلن وحبابك .. يا والدة..
- ولو جاءتك بنت صغيرة شابة .. قول ليها أهلن حبابك ..يا أختى .. وهكذا , ثم أعادت لة ما قالتة مرارا وتكرارا حتى حفظة تماما وعلى ظهر قلب ثم ودعتة وأنصرفت .
وبعد ذلك غابت المراة العجوز لعدة أشهر , ثم ما لبثت أن عادت لة مرة أخرى تتفقد أحوالة وكأن العناية الالهية قد أرسلتها لة للقيام بهذا الدور الهام فى حياتة كلها , فألغت علية التحية هذة المرة فحياها باحسن منها بل وزاد فى ذلك , و وجدتة بأحسن حالا من ذى قبل وبدا بالفعل يشب على الطوق , وتظهر علية علامات النبوغ المبكر والرغبة الاكيدة فى التعلم والسؤال والاستفسار , عن كل شىء سواء أكان هذا الشىء صغيرا أم كبيرا , وأعتبرتة بالتالى فاتحة خير وبشرى كبرى بذكاءة الحاد ومجاهداتة الذاتية فى تعلم ناصية الكلم كلة , فأخذ يأمر العاملين هنا وهناك بافعل هذا ولا تفعل ذلك وغيرة من شئون القصر والسيادة المعروفة .
غير أنها ومع كل هذا التطورالايجابى وجدت أن طعامة الخاص مازال يحضر لة وعلى نفس هيئتة الاول , أو شاكلتة السابقة عندما كان طفلا صغير وبالتالى لم يطراء علية أى تغير يذكر , فمثلا اللبن كان يرسل لة بدون جمادة والعصيدة ترسل لة منزوعة القشطة واللحم مقطع لقطع صغيرة بلا عظم , وذلك مبالغة فى تدللة وتنعمة فقالت لة العجوز:
ـ أنت الان ماشاء الله .. كبرت خلاص عن كل هذا التنعم والتدليل الذى أحسبة كان معقول فى السابق .. أما الان فأنت قد كبرت عن كل هذا فيجب عليك أن تخشوشن , وترسل فورا لابيك السلطان وتطلب منة أن يرسلوا لك الاكل فى المرة القادمة , بحيث يكون اللبن حار وبجمادتة لتزيلها بنفسك , وكذلك العصيدة بقشطتها لتنزعها بيديك فلم تعد الان طفلا صغيرا , أم اللحم فاطلب منة أن يرسل لك بكامل عظمة, وفى نفس الوقت أطلب منة أن يرسل لك سكينا حادة معة لتحفحف بها اللحم من عظمة وتاكلة , وبالتالى تضعها بعد الفراغ منها وغسلها فى ضراعك لان السكين كما يقولون بتحفظ الرجل , بل وما أن جاءة الوزير المكف فى اليوم التالي حتى طلب منة نقل كل هذة المطالب , وبحزافيرها عاجلا لجلالة السلطان والدة , بعدها فطن مباشرة السلطان نفسة الان فقط ’ بأن أبنة " حامد سيد العويضة " الطفل الصغير المدلل والذى لا حول لة ولاقوة قد بداء بالفعل يشب على الطوق ويكبر , فامر السلطان من الجميع بتفيذ طلباتة فورا , ثم ما لبث بعد ذلك وعلى تلك الحال لعدة أشهر طويلة أخرى, لتعود بعدها المراة العجوز للظهور لة مرة أخرى وكانها على موعد مسبق ودائم معة , ووفق برنامج زمنى مخطط لة ولتجدة فى هذة الفترة الطويلة , قد قطع شوطا كبيرا ولابأس بة فى التعرف وبوعئ كبير عن طبيعة الاشياء من حولة , فوجدت بالطبع الاكل وكما أوصتة بة ووجدت حتى السكين فى ضراعة وأطمئنت تماما بعد ذلك على حالة وأحوالة , ولتقول لة هذة المرة وبمنتهى الوضوح :
ــ بسم الله .. ماشاء الله .. فلقد بلغت الان يامولاى الصغير .. سن التاسعة من عمرك أى السن الضرورية للفتيان لدخول مرحلة تعلم القراءة والكتابة , فأطلب من أبيك مولانا السلطان أن يرسل لك الاساتذة والمربين المهرة لاعطأك الدروس اللازمة لك فى مختلف العلوم , كالدين واللغة والحكمة وفنون الحكم والحرب والفروسية , كبقية أخوتك وكل الصبيان وفى مثل سنك , لتلحق بأندادك بل وتتفوق عليهم كلهم فى هذا المجال الهام , وما أن ذهبت المراة العجوز وجاء الوزير المكلف حتى طلب منه نقل مطلبة العاجل هذا وعلى جناح السرعة لابية السلطان , الذى بدأ يطمئن فعليا وأكثر بأن أبنة قد قطع شوطا كبيرا من الوعى فامر فورا بأرسال الاساتذة والمربين النجباء , ليباشروا فى تعليمة وتلقينة مختلف أنواع العلوم المعروفة وفنون الحكم والحرب والفروسية المطلوبة وهكذا أستمر فى تلقى العلوم والترقى من مرحلة الى أخرى , ولسنوات طويلة وعديدة أظهر خلالها نبوغا وذكاءا عبقريا منقطع النظير فى جميع العلوم والفنون المختلفة , وامتلك بالفعل نأصية العلم والحكمة والفروسية وأصبح بالتالى رجلا كاملا ومهابا وفارسا لا يشق لة غبار ومن الطراز الاول والرفيع .

(الفصل الاول ) ـ يتبع

فتحى عبد العزيز محمد
جدة – حارة اليمن والبحر
10 /10/2014م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق