أوراق متساقطة ~
قصّة قصيرة ~
أطلّت من النّافذة حين سمعت بوادر قطرات المطر تنهمر و تطرق بلّورها مؤذنة بحلول فصل الخريف . استبشرت بتلك القطرات التي دعت أن تكون غيثا نافعا و ودّت لو تقدر أن تخرج مثما كانت تفعل في صباها حين كانت تغادر البيت خلسة لترقص تحت المطر وتبلّل ثيابها وتفتح فاها مادّة لسانها لترتشف تلك القطرات العذبة، وكثيرا ما كانت أمّها توبّخها حين تفعل لأنّها ستضطرّ لتغيير ملابسها هذا إن لم يضطرّها ما فعلته إلى ملازمة الفراش أيّاما بسبب الزّكام الذي كان يسرع إليها كلّما تعرّضت إلى نوبة برد أو إلى قطرت من المطر. كانت تنظر من النّافذة و هي تشدّ الشّال على كتفيها فقد شعرت ببرد مفاجئ يسري في أوصالها . وهي في وقفتها تلك مرّ أمام عينيها شريط طويل مفعم بالحياة والأمل حينا والخوف واليأس حينا آخر، تذكّرت زوجها وكيف كانا يجلسان على ذلك المقعد في مساءات الصيف طلبا للهدوء و النّسيم و في الرّبيع للاستمتاع بجمال الطّبيعة وما حبى به زوجها الحديقة من أشجار وأزهار بألوان وأشكال مختلفة فقد كان ذا ذوق راق وكانت اختياراته أنيقة فهذه ورود حمراء و أخرى وردية و تلك بنفسجيّة و هنا الفلّ و هناك الياسمين وهذه شجرة زينة لا تفقد اخضرارها على مرّ الفصول وكثيرا ماكان يشبّهها بها ويتغزّل بكونها مازالت لم تفقد شيئا من جمالها رغم مرور السنين. ثلاثة عقود مرّت على زواجهما وغادر الأبناء وبقيا معا يشدّ أحدهما أزر الآخر بعد أن تقاعد هو وأصبحت الحديقة تحظى بنصيب وافر من اهتمامه .
و بقدر ما كانت هي تحبّ فصل الخريف وتراه حلقة لا يمكن تجاوزها من دورة الكون الأبديّة كان زوجها يكره الفصل ويدمي قلبه تساقط الأوراق واصفرارها ويشعر بالحزن والكآبة طيلة الفصل حتّى أنّها كثيرا ما أصرّت عليه كي يجلس معها تحت الأشجار التي اصفرّت أوراقها وفوق ذلك البساط من الأوراق التي تحدث صوتا محبّبا إليها كريها إليه. كان الصوت يعلن عن موت تعقبه حياة عندها ولا مفرّ من سقوط تلك الأوراق كي تنمو أخرى بعدها، فكانت تسبّح الخالق وتُكبر الكون حولها وتسعد بالخريف لأنّه حلقة الوصل بين الصّيف والشّتاء كي يزهر الرّبيع ويستقرّ في ذهنها ألاّ ربيع دون خريف !! أمّا هو فكان ينتظر مرور الخريف بفارغ الصبر كي يستقبل الشّتاء الممطر لأنّه السّبيل الوحيد للربيع العطر.
ترقرقت دموع مسحتها بقفا يدها وترحّمت عليه في سرّها لن تجد هذا الخريف من تترجّاه ليجلس معها على ذلك الكرسيّ الخشبيّ الذي هجرته في كلّ الفصول منذ فارقها، لم تعد تشعر بطعم الأيّام و لا بمرور الفصول وتواليها ولم يعد يعنيها الصيف ولا الشتاء ولا الرّبيع، ولا تعرف كيف سمعت هذه المرّة نقرات حبّات المطر على نافذتها ممّا جعلها تستبشر بشتاء ماطر وجعل روحها تستعيد بعضا من أمل في ربيع مزهر هذه السّنة ~
~ فوزية عاشور ~ 16/09/2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق